ثلاثين يوماً تأكيداً لهذا المعنى.. في إطار فكرة «العادة» بمغزاها ودلالاتها وعمقها في النفس الإنسانية.. العادة.. ذلك الحليف الصديق لنا في تغيير أنفسنا لنكون كما نحب أن نكون وكما يجب أن نكون.. ويربطها بكل ما هو صحيح وجميل في العادات والواجبات اليومية كما ينبغي أن تكون وفي صورتها الأكمل والأرقى، فتصبح جزءاً من طبيعة الشخصية الإنسانية الإيمانية المضيئة.. رمضان وضع خط النهاية للفكرة الخطأ «كما بدأت ستبقى».. والصحيح «كما تريد ستكون..».

وليس مثل رمضان وليس مثل أيامه ولياليه في إحداث هذا الأثر العظيم.

«اسجد.. وحرك شفتيك بالصلاة.. وستؤمن..»، قالها الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (1623- 1662م) لمستكبري زمنه من دعاة «الصدفة الذكية» التي أوجدت الوجود المطلق في إبداعه، والمطلق في قوانينه ونظامه، والمطلق في استمراره ورعايته.

وهو هنا ينصح بالخطوة الأولى التي يسمونها «الشرط الإنساني للتغيير».. إذا كانت فكرة الإيمان صعبة عليك وتريد أن تصل إليها فعلاً فـــ«اسجد»، وسيأتيك الإيمان.

وكيف يأتيك وهو أصلاً فيك؟ ألم نقل جميعاً: «بلى» يوم خلقنا الله، وقال لنا: ألست بربكم؟ سبحانه وتعالى علواً كبيراً.

الحاصل أن المعنى الباسكالي العميق سنطلبه ونبحث عنه في رمضان.. وفكرة التغيير في رمضان.. التي تشغلنا جميعاً التي لها في أدبياتنا وثقافتنا الإيمانية ألف حضور وحضور.

بدءاً من الآية الكريمة في سورة «محمد»: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) (محمد: 17)، مروراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله»، والحديث: «إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه».

مروراً بتلال الروايات الصحيحة والأفكار والمعاني في تراثنا الرائع الثرى؛ مما يعيننا على الشحن الدائم لأعمالنا بالنوايا الطاهرة وما يترتب عليه من توسيع غير محدود لها، بل وتطوير وتجديد وتعظيم لها في عقل الناس وقلب الناس ودنيا الناس وحياة الناس.

تقول الحكاية: إن باسكال كان في عصره يخوض معركة كبرى للغاية من أجل برهان وإثبات وتثبيت وإحقاق فكرة الإيمان بالله العلي الأعلى خالق كل شيء وربنا ورب كل شيء، لدرجة أنه قدم لكل ملحد عرضاً مغرياً للغاية يصل به معه إلى أنه لن يخسر شيئاً لو آمن بالله، ما عرف بعدها بـ«رهان باسكال» الكسبان.

سنجد في أحاديث باسكال إلى هؤلاء الناس ما يتنسم فيه أحاديث «العقل الباحث» التي طرحها القرآن العظيم مثل الآية الكريمة: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (النساء: 39)، وغيره مما سنراه.

باسكال كان متعدد المواهب، وكان عاشقاً للعلوم والرياضيات، وترك فيها آثاراً علمية ما زالت حاضرة إلى الآن، مثل: مثلث باسكال الشهير، ونظرية الاحتمالات، وضغط السوائل، وهو الذي اخترع الآلة الحاسبة التي كانت مقدمة طبيعية فيما بعد للحاسب الآلي.

ويقولون: إن الغيرة والحقد والحسد كانت سبباً قوياً لتجاهل وإهمال دراساته ونظرياته وقتها، التي لم تستفد منها البشرية بحق إلا في القرن التاسع عشر؛ أي بعد قرنين من موته، سواء في العلم أو حتى في الدين، وله كتيب ديني في شكل رسائل (18 رسالة) عنوانه «الرسائل الريفية» باسم مستعار طبعاً.

ولباسكال مقولة مختصرة وبسيطة ومعبرة للغاية: «كي تكون أفعالنا صحيحة يجب أن تكون أفكارنا صحيحة»، وقيمتها ليست في توازنها فيما بين الفكر والفعل، أو الفكر والحركة، أو الفكر والسلوك، ولكن -وهو الأخطر- في اختلالها واضطرابها! 

لن يكون ما نفعله برمضان صحيحاً إلا إذا كانت فكرتنا عنه صحيحة، رمضان يقدم لنا نفسه في شكل فكرة، ويا لها من فكرة! إنها فكرة تمثل أعمق معنى لوجود الإنسان على الأرض، وهو أن الله أقرب إلينا من حبل الوريد.

جواب القرآن على السؤال عن الله؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) (البقرة: 186)، كان الجواب الذي جاء بعد آيات فرض الصيام في سورة «البقرة»، وعلمنا بعدها (فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة: 186).

وسنرى أن الآية الكريمة التي لم يكن يعرفها باسكال وهو يقدم نصيحته لغير المؤمنين بالسجود، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق: 19) هي أول سورة نزلت على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد بعثته للعالمين رسولاً.

في رمضان يزداد القرب قرباً حين نتمثل فكرة أننا إن لم نكن نراه سبحانه فهو يرانا، فنكون -ما استطعنا- كما أراد الله لنا أن نكون، وكما يجب أن نكون.